فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} ابتداء وخبر.
ويجوز أن يكون {الحق} نعته، والخبر {يَوْمَئِذٍ}.
ويجوز نصب {الحق} على المصدر.
والمراد بالوزن وزن أعمال العباد بالميزان.
قال ابن عمر: توزن صحائف أعمال العباد.
وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي.
وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق.
وقال مجاهد: الميزان الحسنات والسيئات بأعيانها.
وعنه أيضًا والضحاكِ والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذِكر الوزن ضربُ مثلٍ؛ كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وَزْنٌ.
قال الزجاج: هذا سائغٌ من جهة اللسان، والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان.
قال القشيرِيّ: وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الدِّين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطينُ والجنّ على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة.
وقد أجمعت الأُمة في الصدر الأوّل على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل.
وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصًا.
قال ابن فُورَك: وقَدْ أنكرت المعتزلة الميزان بناءً منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها.
ومن المتكلِّمين من يقول: إن الله تعالى يقلِب الأعراض أجسامًا فيزنها يوم القيامة.
وهذا ليس بصحيح عندنا، والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التي فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف.
وقد روي في الخبر ما يحقِّق ذلك، وهو أنه روي: «أن ميزان بعضِ بني آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رِق مكتوب فيه لا إله إلاَّ الله فيثقل» فقد عُلِمَ أن ذلك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يُوضع في كِفتيه من الصحف التي فيها الأعمال.
وفي صحيح مسلم عن صَفْوان بن مُحْرِز قال قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النَّجْوى؟ قال سمعته يقول: «يُدْنَى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه فيُقَرِّره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي ربِّ أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيُعْطَى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله» فقوله: «فيعطى صحيفة حسناته» دليل على أن الأعمال تكتب في الصحف وتوزن.
وروى ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُصاح برجل من أُمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سِجِلًا كل سِجِل مدّ البصر ثم يقول الله تبارك وتعالى هل تنكر من هذا شيئًا فيقول لا يا ربّ فيقول أظَلَمْتك كَتَبتِي الحافظون فيقول لا ثم يقول ألك عذر ألك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتُخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمدًا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البِطاقة مع هذه السِّجِلاّت فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كِفة والبطاقة في كِفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة».
زاد الترمذيّ «فلا يثقل مع اسم الله شيء» وقال: حديث حسن غريب.
وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في الكهف والأنبياء إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} {مَوَازِينُهُ} جمع ميزان، وأصله مِوزان، قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها.
وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد يوزن بكل ميزان منها صِنف من أعماله.
ويمكن أن يكون ذلك ميزانًا واحدًا عُبِّرَ عنه بلفظ الجمع؛ كما تقول: خرج فلان إلى مكة على البغال، وخرج إلى البصرة في السفن.
وفي التنزيل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين}.
{كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} [الشعراء: 123].
وإنما هو رسول واحد في أحد التأويلين.
وقيل: الموازين جمع موزون، لا جمع ميزان.
أراد بالموازين الأعمال الموزونة.
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} مثله.
وقال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكِفّتان؛ فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته؛ فذلك قوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون} ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كِفّة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار.
وما أشار إليه ابن عباس قريب مما قيل: يخلق الله تعالى كل جزء من أعمال العباد جوهرًا فيقع الوزن على تلك الجواهر.
وردّه ابن فُورك وغيره.
وفي الخبر: «إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بِطاقة كالأنملة فيلقيها في كِفّة الميزان اليمنَى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بأبِي أنت وأُميّ! ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تُصلّي عليّ قد وفيتك أحوج ما تكون إليها» ذكره القشيرِيّ في تفسيره.
وذكر أن البطاقة بكسر الباء رُقعة فيها رقم المتاع بلغة أهل مصر.
وقال ابن ماجه: قال محمد بن يحيى: البِطاقة الرُّقعة، وأهل مصر يقولون للرُّقْعة بِطاقة.
وقال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السَّلام، يقول الله تعالى: «يا جبريل زِنْ بينهم فرُدّ من بعض على بعض» قال: وليس ثمّ ذهب ولا فضة؛ فإن كان للظالم حسناتٌ أخِذ من حسناته فردّ على المظلوم، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم؛ فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم ابرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وانظر ما يرفع إليك من أعمال بَنِيك فمن رجح خيرُه على شره مثقالَ حَبّة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثقال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أَعذب إلاَّ ظالمًا». اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {والوزن يومئذ الحق} يعني والوزن يوم سؤال الأمم والرسل وهو يوم القيامة العدل، وقال مجاهد: المراد بالوزن هنا القضاء، ومعنى الحق العدل.
وذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالوزن وزن الأعمال بالميزان وذلك أن الله عز وجل ينصب ميزانًا له لسان وكفتان كل كفة ما بين المشرق والمغرب، قال ابن الجوزي: جاء في الحديث «أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه إياه فقال إليه من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات فقال يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» وقال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة فيقول له ربه عز وجل بينهم ورد من بعضهم على بعض وليس ثم ذهب ولا فضة فيرد على المظلوم من الظلم ما وجد له من حسنة لإن لم يكن له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على سيئات الظالم فيرجع الرجل وعليه مثل الجبل.
فإن قلت: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها؟
قلت: فيه حكم منها إظهار العدل، وأن الله عز وجل لا يظلم عباده، ومنها امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى ومنها تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى، ثم اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال المكتوبة فيها الحسنات والسيئات ويدل على ذلك حديث البطاقة وهو ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين وتسعين سجلًا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول له أتنكر من هذا شيئًا أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول الله تبارك وتعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال فإنه لا ظلم عليك اليوم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي وأحمد بن حنبل.
وقال ابن عباس: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس: أن الأعمال تتصور صورًا وتوضع تلك الصور في المزان ويخلق الله في تلك الصور ثقلًا وخفة.
ونقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص واستدل لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة» أخرجاه في الصحيحين وهذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكر من وزن الأشخاص في المزان لأن المراد بقوله لا يزن عند الله جناح بعوضة مقداره وحرمته لا وزن جسده ولحمه والصحيح قول من قال إن صحائف الأعمال توزن أو نفس الأعمال تتجسد وتوزن والله أعلم بحقيقة ذلك.
وقوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه} جمع ميزان، وأورد على هذا أنه ميزان واحد فما وجه الجمع وأجيب عنه بأن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد، وقيل: إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل: إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله وقيل هو جمع موزون يعني من رجحت أعماله بالحسنة الموزونة التي لها وزن وقدر {فأولئك هم المفلحون} يعني: هم الناجون غدًا والفائزون بثواب الله وجزائه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}
اختلفوا هل ثَم وزن وميزان حقيقة أم ذلك عبارة عن إظهار العدل التام والقضاء السويّ والحساب المحرّر فذهبت المعتزلة إلى إنكار الميزان وتقدّمهم إلى هذا مجاهد والضحّاك والأعمش وغيرهم، وعبّر بالثقل عن كثرة الحسنات وبالخفة عن قلّتها، وقال جمهور الأمّة بالأول وأنّ الميزان له عمود وكفّتان ولسان وهو الذي دل عليه ظاهر القرآن والسنّة ينظر إليه الخلائق تأكيدًا للحجة وإظهارًا للنصفة وقطعًا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم وتشهد عليهم بها أيديهم وأرجلهم وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد، وأما الثقل والخفة فمن صفات الأجسام وقد ورد أنّ الموزون هي الصّحائف التي أثبتت فيها الأعمال، فيُحدث الله تعالى فيها ثقلًا وخفةً وما ورد في هيئته وطوله وأحواله لم يصحَّ إسناده وجمعت الموازين باعتبار الموزونات والميزان واحد، هذا قول الجمهور.
وقال الحسن لكل أحد يوم القيامة ميزان على حدة وقد يعبّر عن الحسنات بالموازين فيكون ذلك على حذف مضاف أي من ثقلت كفّه موازينه أي موزوناته فيكون موازين جميع موزون لا جمع ميزان، وكذلك ومن خفّت كفّة حسناته و{الوزن}.
مبتدأ وخبره ظرف الزمان والتقدير والوزن كائن يوم أن نسألهم ونقّص عليهم وهو يوم القيامة و{الحقّ} صفة للوزون ويجوز أن يكون {يومئذ} ظرفًا للوزن معمولًا له و{الحقّ} خبر ويتعلّق {بآياتنا} بقوله: {يظلمون} لتضمّنه معنى يكذّبون أو لأنها بمعنى يجحدون وجحد تعدّى بالباء قال: {وجحدوا بها} والظاهر أنّ هذا التقسيم هو بالنسبة للمؤمنين من أطاع ومن عصى وللكفّار فتوزن أعمال الكفار.
وقال قوم: لا ينصب لهم ميزان ولا يحاسبون لقوله: {وقدّمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا} وإنما توزن أعمال المؤمن طائعهم وعاصيهم. اهـ.